فارقني صفوُ الحياة مُذْ انقطعتُ عنه؛ لا عن قِلَىً مِنّي، ولكن إشفاقًا عليه مِنْ تفجّر مشاعري التي لا أتمالكها حتى عند الاقتراب من (داره) لألمي المُـمِضّ منذ أصابه المرض.
رحل، فصار المكان -للحظة- واسعًا بلا صوت، والوقت ثقيلًا بلا طعم، وحين همست الذكرى باسمه انفتح في داخلي باب للحنين لا يكاد يُغلق، وثَمّة جزءٌ مني يقف هناك عند آخر لحظة جمعتني به!
كان الأخ قرابةً، والصديق القريب مشاعرًا وروحًا، ويا لها مِنْ نعمةٍ أحاطني الله بها أن جمع لي فيه الأُخوّة والصداقة الصادقة بحق، وما أجلّهما وأجملهما مِنْ نعمةٍ نَدَر أن تجتمعا.
ولقد تفتّح أفقي ووعيي في المرحلة المتوسطة حين سكنتُ معه بمدينة (القنفذة) حيث كان يعمل كاتبًا للضبط بمحكمة القنفذة، وذلك بالاطلاع على المجلات الثقافية التي كان يجلبها، وأحاديثه الشائقة عن حكمة القضاة في التعامل مع القضايا العويصة، عدا عن حديثه عن (برامج الإذاعة) التي كان يُعجب بها.
وبانتقالي للدراسة في معهد المعلمين بـ(جدة) – وما أدراك ما (جدة) لمن أصبح متعلقًا بالثقافة وبمجلة (العربي) الكويتية التي كان ذلك الزمن زمانها لعدم وجود منافس لها، ولوجود سوقٍ للأعداد القديمة في (باب شريف) – إضافة إلى المجلات الأخرى التي تجمعنا في الإجازات المدرسية.
ثم تمضي بنا قافلة الحياة لأتخرج وأعمل معلمًا، وكان ظنه بي يجعله يُوكِل إليّ تبييض ما كان لديه من أعمال خلال الانتدابات القضائية في (مركز القوز).
ولعل أبرز ما كان لافتًا فيه محبّة القضاة وزملاء العمل والمراجعين له؛ لِينُ جانبه في التعامل مع مَن يعرف ومَن لا يعرف.
وأثمر حبّه للقراءة والاطلاع وإخلاصه في عمله أن أصبح موضع ثقة قضاة محكمة (القنفذة)، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ عيسى بن علي الحازمي -رحمه الله- ليُوجَّه للعمل مع الملازمين القضائيين حديثي التعيين في سلك القضاء؛ لإكسابهم الخبرة الإدارية، وقد حفظ له بعضهم الودّ والعرفان بمخاطبته في رسائلهم بـ(أستاذي).
إلى ذلك كان عازفًا عن تولّي أعمال رئاسية في المحكمة مكتفيًا بعمله (كاتب ضبط). فعندما فُتحت كتابة عدل في (القنفذة) كان الأجدر بها، إلا أنه أعرض عن قبولها وبقي كاتبًا للضبط، قريبًا من قلوب القضاة والزملاء والمراجعين، إنسانًا متواضعًا يمشي على الأرض هونًا طيلة عمله في محكمة (القنفذة)، وبعد انتقاله للعمل بمحكمة القوز إلى أن تقاعد مع نهاية خدمته النظامية، دون أن يبخل على زملائه في المحاكم برأيه فيما يُسألون عنه مما يصادفهم في العمل من أمور مختلفة.
أما في حياته العامة، فإن الكرم كان صفته البارزة: كرمًا في البذل والعطاء، وكرمًا في السجايا، لا يريد أن يُغضب أحدًا، لكنه يبقى المستشار المؤتمن، الناصح الأمين الذي يقصده من يعرف ومن لا يعرف؛ فلا يُشير إذا استشير إلا بما يراه صائبًا – وإن أغضب صاحبه.
وكان لأهله وأقاربه (الشجرة الطيبة) التي يتفيؤون ظلالها، وقد أدركوا جسامة فقدها بعد رحيلها.
لكن سيبقى عبدالله بن حسن أبوصكعة القوزي اسمًا منقوشًا في وجداننا وذاكرتنا برغم رحيله عن دنيانا الفانية بعد معاناة لسنوات مع المرض، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل ما أصابه في ميزان أعماله.
وسيظل (عبدالله) لأخيه الذي يُدين له بما هو عليه من مناقب الخير وتكوين شخصيته بتوجيهه للقراءة وجوانب الإدارة والحقوق مما نفعه في حياته، وفوق ذلك كله الأخوّة والصداقة التي اجتمعت فيه -وإن ندرت في زماننا هذا- فقد قالت العرب قديمًا: «إن المستحيلات ثلاث: الغول والعنقاء والخِلّ الوفي».
ويكفي أن صفو الحياة فارقني بعد مرضه، لأعيش بلا هوية كالتائه الذي تفرقت به السبل، ولا أجد بديلاً إلا الدعاء له.
فاللهم اجزه عني خير ما جزيت أخًا صديقًا محبًا عن أخيه، واجعل اللهم قبره روضة من رياض الجنة، وأنزله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا.
اللهم أبدل شدة شوقي إليه عطرًا، وحبي له صبرًا، ومرارة فقدي له أجرًا، واجمعني به في جنات النعيم.




