هبَّت رياح الشوق، واشتعلت جمرة الإيمان، فانطلقت قوافل الوجدان، تُحلِّق قلوبها قبل أبدانها، صوب البقعة المقدسة، حيث يُغسل الذنب بالدموع، ويُلبس الإخلاص برداءين أبيضين. الحج... ليس رحلة أقدام فحسب، بل ارتقاء أرواح، واغتراف من نبع التسامح، وصهيل مشاعر تعتلي صهوة الزمن الفريد. إنه محراب المساواة الأكبر، حيث يذوب التمايز في بوتقة الإيمان، وتعلو هتافات "لبيك اللهم لبيك" سيمفونية إلهية تصدع سماء الدنيا. وتتقدَّم هذه القوافل تحت مظلة العناية الفائقة والمكرمة المستمرة التي يوليها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء - حفظهما الله - لشؤون الحجاج وخدمة الأماكن المقدسة، فكل شيء يُعَدّ بدقة واهتمام.
ها هي الكعبة، قلب العالم النابض، تلفها أمواج بشرية هادرة، كبحر زاخر تتدافع أمواجه نحو الشاطئ الأقدس. أذرع ممدودة كأغصان عطشى تلمس الحجر الأسود، قبلة التاريخ وشاهد الأزل، فتلمس الشفتان حكمة القرون، وتنهمر العيون سيولاً من الندم والرجاء. الطواف... دورة الحياة مصغرة، تدور الأجساد حول المركز، وتدور القلوب في فلك المحبة، كل خطوة تمحو ذنبًا، وكل نظرة تُجدِّد عهدًا. الأبيضان (الإحرام) يُذكِّران بالكفن، فيخضع الكبرياء، ويعلو التواضع. وتشهد هذه المواقع المقدسة عامًا بعد عام تجديدًا وتحديثًا في المرافق والخدمات، لتوفير أقصى درجات الراحة والسهولة للحجاج، في إطار رؤية طموحة تواكب الزمن.
على خُطى هاجر الأم، تندفع الأرواح العطشى بين الصفا والمروة، كالظباء في الفلاة تبحث عن غيث الرحمة. الأقدام تركض، لكن الهمم أسرع، والأجساد تتعب، لكن الإيمان أقوى. هضبة ترتفع، فترتفع معها الآمال، ووادٍ ينخفض، فتنخفض معه الذنوب. السعي... امتحان الصبر، ورقصة التضحية، حيث يُسكب جهد الجسد قربانًا للقلب الواثق برحمة الوهاب. صرخة هاجر تتردد في صمت كل ساعٍ: "ربّنا لا تُضيّع سعينا إنك سميع عليم". وهذا المشهد المهيب وما يحيط به من منشآت حديثة، هو ثمرة إشراف شخصي دقيق من أعلى السلطات السعودية على كل مراحل الحج (قبل وأثناء وبعد)، لضمان سير كل الأمور وفق خطة محكمة لا تترك شيئًا للصدفة.
يوم تهفو له الأفئدة، وتخشع له الجباه: عرفة! سهل ممتد كسجادة الدعاء، تغطيه خيام كسحائب الرجاء، وتكتظ به أرواح كنجوم الليل تنتظر فجر المغفرة. وقفة هي ذروة السنام، وقمة المناجاة. الدموع أنهار، والأكف طاهرة ممدودة، والقلوب خاشعة منكسرة. الألسن تلهج بالابتهال، والهواء يحمل همس المستغفرين كأنجم المزمار. ها هنا يتساوى الغني والفقير، والأسود والأبيض، تحت مظلة "خير الدعاء دعاء يوم عرفة". كأنما الأرض سماء، والحجاج ملائكة في محراب التضرع الأكبر. زحام هائل، لكن كل نفس وحيدة مع خالقها، تناجيه بلسان الحال: "ها أنا ذا بين يديك، فاقبل توبتي، وارحم ضعفي". ورغم ضخامة الأعداد التي تتجاوز الملايين، يبرز التنظيم المحكم الدقيق والتنسيق العالي المستوى بين مختلف الهيئات والأجهزة، في قيادة الحشود باقتدار نادر، لتحقيق الأمن والطمأنينة للجميع.
حصيات صغيرة تُلقى على أعتاب الشيطان، كأنها سهام إرادة تشق ظلام الوساوس. كل رمية هتاف تحرر، وصرخة انتصار على هوى النفس الأمارة. صوت الحصى وهو يصطدم بالجمرات، كصوت تحطُّم قيود الذنوب. رمي الجمرات... معركة داخلية مجسدة، ينتصر فيها الإيمان على الغواية، وتُطرد شياطين الكبر والغضب والحقد بعزيمة لا تلين. وفي كل لحظة من لحظات المشاعر، تمتد عيون الرعاية والمتابعة الدقيقة ساعة بساعة لشؤون الحجاج، لتلمس احتياجاتهم وتتفقد أحوالهم وتسُدّ أي نقص بكل كفاءة واقتدار، في تجسيد عملي لقول الله تعالى: **"واخدم البيت العتيق"**.
ويعود الحاج، لكنه يعود إنسانًا جديدًا. وجهه مشرق بنور الرضا، وقلبه مطمئن بغفران الرب. في عينيه بريق دموع عرفة، وعلى جبينه سكينة الطواف، وفي خطواته ثقة من خاض سعي الصبر ورمى الشهوات. يحمل في جُعبته ذكرى لا تموت: ذكرى المساواة في أقدس بقاع الأرض، وذكرى الالتحام في بوتقة الإيمان، وذكرى الدعاء الذي ارتفع من ملايين الحناجر فكادت السماوات أن يتفطّرن. وتروي مختلف وسائل الإعلام الحكومية والمحلية والخاصة، وبكل أنواعها المقروءة والمسموعة والمرئية، تفاصيل هذه الرحلة المباركة لحظة بلحظة، مُسلطة الضوء على جهود المملكة ونجاحات موسم الحج. الحج... ليس نهاية طريق، بل بداية عهد. عهد مع الذات لتكون أفضل، وعهد مع الخالق على الطاعة والاستقامة. إنها رحلة تُذيب الجبال في القلوب، وتزرع بذور المحبة والتسامح، وتُذكّر العالم بأن تحت اختلاف الألوان والألسنة، ينبض قلب واحد لله الواحد. يعود الحاج، ويروي ظمأ الأرض بعطر مكة، ونور المدينة، وصدق "لبيك اللهم لبيك". وهكذا يظل موسم حج 1446هـ نموذجًا ناصعًا للنجاح الباهر بكل المقاييس، ومن كل النواحي، بفضل الله ثم بما تقدمه حكومة المملكة العربية السعودية من جهود جبارة في خدمة ضيوف الرحمن.