.. في عالمٍ يضجّ بالعقول الراجحة – أو هكذا نظنّ – يبرز نوعٌ فريدٌ من البشر .. كائنٌ مجادلٌ بالفطرة ..( مُصاب بالنقاش القهري ).. لا يهزمه منطق .. ولا تردعه حجة .. تراه دائماً متأهباً لسجالاتٍ لا نهاية لها .. يتغذى على الجدل .. كما يتغذى العشب على المطر .. كلما حاولتَ إقناعه بالحقيقة رفع حاجبه باستهجان .. وقام بالمراوغة العقيمةٍ بين الأخذ والرد ..( ينشبها في صفا أصمّ .. ويغدي عكشْه عند كل موضوع .. ويلجّغ بالهروج اللي مالها راس ولا قياس )..
.. فقد نجد احدهم لا يؤمن بـ( الحوار البناء ).. بل يرى أن النقاش يجب أن يكون حرباً شعواء .. لا غالب فيها إلا لسانه .. ولا يُهزم خلالها إلا الحقائق .. يدخل في أي نقاش .. ويُشارك بأي حوار ..( سواء كان عن السياسة .. أو الطقس .. أو الرياضة .. أو حتى عن أفضل طريقةٍ لطهي الخُبزة المقنّاه ).. وتراه يحاول إقناعك أن هناك طريقة مُثلى لطبخ الشكشوكة دون بيض .. وعمل المقلقل بلا لحم .. ليحول المداولة إلى ساحة قتال لا تهدأ .. وإن فاجأته بحقيقةٍ علميةٍ ثابتة .. استدار ( عشان يكايد ) وقال بثقةٍ مطلقة ..( المهم أن تحترم وجهة نظري !! ).. وكأن الحقائق خاضعةٌ لمزاجه الشخصي...( مغزول ما معه من عقله ولا كُفحه .. تحْداه الفشاله من جميع الاتجاهات .. ولا معه إلا ما يرده عن الهول )..
.. ولأنه لا يعترف بفكرة أن الحوار يجب أن يؤدي إلى نتيجة .. فهو قادرٌ على الدوران في حلقة مفرغة .. إلى أن تُصاب أنت بالدوار .. كلما قدمتَ له دليلًا .. ردّ عليك بدليلٍ أقوى – ليس لأنه صحيح - بل لأنه أكثر صخباً وتعقيداً .. وعندما تبدأ تشعر بالإحباط .. يختم النقاش بجملته الخالدة ..( كلٌ له رأيه !! ).. ليجعلك تدرك أنك كنت تناقش شخصاً يظن أن الأرض مسطحة .. لكنه لا يمانع أن يقول إنها كروية إذا كان هذا سيطيل الجدل ..( المهم أنه يقعد يلوي بك .. بقعاء تصوعه وتلوعه .. ما فيه إلا لسانه كما لُسان الهيشه .. ما تاخذ منه لا حق ولا باطل )..
.. والمعضلة الكبرى أنك كلما حاولت إنهاء النقاش .. شعر بأنه انتصر .. وكأن الصمت اعترافٌ صريحٌ بعبقريته الجدلية .. هو لا يريد أن يصل إلى الحقيقة .. ولا أن يتعلم جديداً .. أو أن يتقن مفيداً .. كل ما يريده هو أن ( يتحدث .. ثم يتهرج .. ثم يرغي ).. ثم يقول أخيراً ( ما أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى )..( حرام بالله أنه سومه .. ويبصر عمره فاكهه .. وفي خاطره أنه قبسن واريه .. وأن الناس ما يتفطّنون إلا فيه .. خذله الله في هذا التمعراف )..
.. حتى أنّهُ في أحد المداولات حاول اقناعي بوجود سمكةٍ ( مقطّعة الزعانف .. وصماء بكماء عمياء ) تجيد السباحة ( رأس جبل شدا ) بصورة أفضل من بحر القنفذة ..( وفي النهاية ).. لا حل مع هذه العيّنة إلا أن تبتسم وتقول له بكل هدوء ..( صدقت يا الذمّاه !! ).. ثم تتركه غارقاً في متاهات جدله الأبدي .. بينما تمضي أنت بسلام ..( المهم لا تحاتره .. حيْل عنه وكان )..
..( هذا ما نقوله في علومنا .. وزايدها بقاكم وعفاكم .. وحيا الله ملْفاكم )..