ألقي القبض على الرجولة لأسباب غير مجهولة، فقد ارتكبت أشنع غلطة، وأفْرَطَتْ في استخدام السلطة، وحُدِّد لمحاكمتها يومٌ سيقت فيه إلى قفص الاتهام، مكبلة الأيدي والأقدام، دون أن يمثلها دفاع؛ لأن أدلَّة البراءة مفقودة، والقاضي بحاجةٍ إلى إقناع، وقف المدعي العام بعد أن سُمِح له بالكلام، فقال: سيادة القاضي، السادة المستشارين، إنَّ المتهمة الماثلة أمامكم في هذا القفص قد زاغ منها العقل ونقص، فهان كل شيءٍ أمامها ورخص، استخدمت سُلطتها للتعذيب والإذلال، وتساوى عندها المعيب والمحمود، والحرام والحلال، فهتكت الأستار هتكا، وفتكت بالعباد فتكا، ما من زمانٍ ولا مكان إلا ولها فيه ضحية، مصابة بأزمة نفسية، أو راقدة على سرير بمشفى، هذا إن سلمت ولم توافها المنية، سأكتفي بهذا ولن أطيل؛ ففي كلام الشهود دليل.
نادى القاضي على الشاهدة الأولى فتقدمت، وأقسمت اليمين، ثم تكلمت، فقالت: خرجت يومًا مع زوجي الذي تصنَّع الرجولة، وأُقْسِمُ أن يدي من رجولته مغسولة، أخذني إلى السوق، وعدت منه وثوبي مشقوق، وكأنما دخلت إلى حلبة مصارعة، أو واجهت عدوًّا في جولة مقارعة؛ فقد انهال عليَّ ضربًا أمام الملأ بالعقال، وعذره أنني أطلت التجوال، ولم أرأف له بحال، ولو استطعت لأريتكم آثار الضرب على ظهري، ولكن يكفيكم أن تروا على وجهي ملامح قهري.
انصرَفَتْ وحلت محلها شاهدةٌ أخرى، تقص قصتها، أو معاناتها بالأحرى، قالت: رُزِقتُ بزوجٍ إن حضر أرعد وأزبد، وإن خرج مع الباب تهدَّد وتوعد، لا نسمع منه إلا الصياح؛ فعيشتي معه كفاحٌ في كفاح، لم يسلم بعيدٌ ولا قريبٌ من سبابه وشِتَامِه، حتى أنه يسبُّ في منامه، طلبت منه يومًا شراء بعض أغراض البيت، فاصفرَّ وجهه واحمر، وعرفتُ في ملامحه الشر، انطلق بي في السيارة، وما وصلنا إلا وقد تأذى منه كل المارَّة، وأمام باب السوق وجد موقفًا فالتف، لكنَّ آخرَ سبقه واصطف، فخرج مسرعًا نحوه في غضب، وذاك تعلوه الدهشة والعجب، حاول أن يُغمِد سيف الغضب المسنون، فقال: خذ المكان ولا يغلبك الجنون، لكن زوجي رد بالسب والشتم، رافعًا يده يريد اللكم، فحمله الرجل - وكان ذا بنيةٍ وقامه، وألقى به في حاوية القمامة، وخرج منها بمنظر قبيح، وأنا في استقباله أولول وأصيح، وعدنا إلى البيت دون قضاء المهمة؛ فقد اكتفينا بتلك المُلِمَّة، ومن يومها فارقت زوجي رجولته المزعومة، وتخلَّى عن كل صفاته المذمومة.
وتوالى الشهود بلا عدد، مابين عاملٍ مغتربٍ مسكين، وطفلٍ صغيرٍ، وأمٍّ ثكلى على ولد، كلهم يتهم تلك الرجولة المغلوطة بالقبح، ويأبى عليها ولو قليلاً من الصفح.
نظر القاضي إلى وجه المتهمة، فرأى كل ملامحه مُلْتَهَمَة، وأغلظ لها القول، وهي بلا قوةٍ ولا حول، وقال: أين منك من أوقعتهم في الإغراء، وفرشت لهم بُسُط الإغواء؟! لا أرى أحدًا منهم مترافعًا، أو جاء عنك مدافعًا. قالت: غرَّتني منهم تلك العضلات المفتولة، والشوارب المجدولة، والحقُّ أنهم عارٌ على الرجولة.
لم ير القاضي حاجةً للمداولة؛ فالتُّهمة مؤكدة، ولن تجدي المحاولة، فأعلن النطق بالحكم: لا أراك أيتها المتهمة إلا كعملةٍ مزوَّة، جاءت على الأصل مصوَّرة؛ فالرجولة الصادقة تأتي على كريم الأخلاق مصادقة، أما أنت فلست غير منافقة، اتخذت من أشباه الرجال العتاد والجيش، وجهزتهم بعدة التهور والطيش؛ لذا فحقك الإعدام، ليسلم من شرك الأنام، رُفعت الجلسة.