يعود إلينا رمضان وكأنه لم يفارقنا لحظة، لقد كان بالأمس معنا، لم نعد نشعر بمرور الأيام وتتابع السنين، لا ندري لماذا؟ أهو تسارع حقيقي في دورة الزمان؟ أم أن لهاثنا المتواصل لتحقيق طموحاتنا وتحقيق ذواتنا قد أنسانا ذلك؟
ها قد عدت إلينا يا رمضان، ولكننا لم نعد أولئك القوم الذين كانوا معك في العام الماضي، لقد غيرتنا الأيام وتناوبت على إنهاكنا السنون، ها قد أتيت ونحن نقترب من منازل الخلود، ولم يعد لدينا إلا بقايا حكايات قديمة كُنتَ قد أودعتنا إياها على مر السنين، نرددها بكل بلاهة كلما ضمَّنا مجلس أو جمعنا لقاء.
لقد سَرَقت منا المدنية فرحة قدومك يا رمضان، وأصبحت أبراجنا الإسمنتية قيودًا حديدية تكبل انطلاق الفرح في أعماقنا، وتحول الفرح بقدوم رمضان إلى احتفال بالمطاعم والمشارب، وإلى التباهي بالسفر المترعة والعامرة بشتى صنوف الأكل والمشروبات، وجاءت تطبيقات التواصل الاجتماعي لتنمِّي في دواخلنا ذلك الهوس بالتفاخر والتباهي، فما هي إلا لحظات وتصبح صورة إفطارك أمام أعين الآخرين لتطوف الدنيا، وأنت لا تزال تحتسي فنجال قهوتك الأول.
أصبح رمضان في مخيلتنا الجمعيَّة مجرد موسم لمشاهدة الجديد من المسلسلات الترفيهية والتي تتسابق القنوات الفضائية في كل عام على تتبيلها بالمغريات اللفظية والإيحائية عبر سيناريوهات مكررة ومملة، لا تمت لواقعنا الحياتي بصلة، وإنما هدفها هو اجتذاب المشاهد، وتحقيق أرباحها المادية، غير آبهةٍ بحرمة الشهر أو حتى باحترام خصوصية الأسرة العربية.
لن نستدعي الذاكرة الرمضانية كثيرًا فهي تضج بالذكريات الجميلة والمواقف التي لا تُملُّ عن رمضان وعن ليالي رمضان، فمن المفارقات التي لم يعد لها وجود في وقتنا الحاضر هو أنه كان هناك تنافس رائع بين الإذاعة والتلفزيون في رمضان، وكانت كل محطة تحاول أن تقدم أفضل ما لديها من برامج رمضانية لعلها تتفوق على المحطة الأخرى، حينها لم يكن للقنوات الفضائية أيّ وجود يذكر.
وعلى غرار هذا التنافس كان بيننا نحن شباب الحي تنافس من نوع آخر، ألا هو استحضار محطات التلفزيون المصرية عبر صحون الغسيل النحاسية، وكان البارع فينا من يستطيع أن يستحضر القناة الأولى والثانية المصرية، وبطبيعة الحال فإن هذه القنوات لم تكن تعج بهذا الغثاء الفني -إن صح التعبير- الذي نراه اليوم، وهو يكاد يسيطر على القنوات الفضائية خلال شهر رمضان المبارك. كان رمضان نقيًا فليبق نقيًا كما كان.