لم تكن مجرَّد عبارةٍ عابرةٍ نطقت بها شفاهُ بالغ؛ فالبالغون يتقنون فنَّ التعبير، ويحسنون الشكر والتقدير، وتحوي قواميس ثنائهم من المفردات الشيء الكثير، أما طفل العاشرة فمثار إعجابٍ ودهشةٍ واستغراب أن تخرج من فيه بعض تلك المفردات دونما إملاء، وبلا تكلُّفٍ أو عناء.
أقبل إليَّ قبل رحيله لإكمال دراسته في مدينةٍ أخرى يعرضُ بين يديَّ كراسة خطه التي مارس هوايته على صفحاتها، ويريني آثار أنفاسِ عَزْمِهِ التي احترقت تلك الأوراق بلفحاتها، ويقول: (أستاذ شوف خطي كيف، بس سامحني؛ لأني كتبت السطر الأخير في السيارة، وما قدرت أثبِّت الدفتر). أشدتُ بخطه، وطلبتُ منه الاستمرار على النهج الذي رسمه لنفسه، وأشعرته أنني ربما ألتقيه يومًا ما وقد أصبح خطَّاطًا يشار له بالبنان، وودعته بقليلٍ من العبارات التي اعتدتُ صياغتها، والمفردات التي لا أنكرُ بلاغتها. واسترسلتُ في المديح والإطراء قبل أن تلامس كلماته الهادئة مسمعي: (ما راح أنسى دعمك لي).
ألجمتني العبارة، وأتى وداعه لي ليذروَ كلَّ عبارات الوداع التي نمَّقتُها، وداعًا بريئًا بحجم براءة طفولته، طاهرًا بقدر طهارة قلبه، صافيًا بعمق صفاء نَفْسِه؛ فتوقَّفتْ كل الكلمات، واصطكَّتْ تِباعًا على شفتيَّ، وحِرْتُ في الرد.
لا تسألوني عن ذلك الشعور الذي خامرني وتلميذي يعلِّقُ على صدري وسام فخر، ويعدني بأن يكون لي الذُّخر، ويُهديني شهادةً تستحقُّ النشر؛ فقد كان شعورًا لا تصفه أبلغ العبارات، امتزج باستشعارٍ لشرف الرسالة التي حملها كل معلم، والمنحة الربانية التي نالها كل مُلهم. فهنيئًا لنا معاشر المعلمين ونحن نجتهد في العمل ونُخْلِص؛ ثم نلتقي بعد حينٍ ذلك التلميذ البارَّ المخلِص، ويأتينا في عرصات الحشر ليكون الشاهد المُخَلِّص.
رسالةٌ أحببتُ أن أختم بها عامنا الدراسي المليء بالعطاء، متمنيًّا للجميع إجازةً سعيدةً، هانئةً، بعيدةً عن كل عناءٍ وشقاء.
بقلم/ يوسف الشيخي

وداع طفل
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.mnbr.news/articles/351618.html


