كثيرة هي الأعوام التي مضت من أعمارنا ونحن لا نشعر بها أو نلقي لها بالًا، ربما لأنها أتت وذهبت من دون أن تلامس أرواحنا أو تنكأ جراحنا، ولكن يظل هناك أعوامًا أخرى لا يمكن للذاكرة أن تتجاهلها أو تتناساها، بل إن الروح ليعتصرها الحزن كلما لاح ذكرها أو طاف على الذاكرة بعضًا من أحداثها.
لقد كان العام المنصرم أحد تلك الأعوام المترعة بالحزن والموغلة بجراحها في أعماق الأرواح، لقد تواطأ ذلك العام مع المنايا، لكي يعبثا سويًا بلوحة الفرح في قلوبنا ويكللاها بجِلال أسود من الحزن ويغرقاها بدموع الوداع الحارة والأليمة.
لقد أتت المنايا على حين غفلة فخطفت من القلوب الأحباب وأغارت على الأرواح فأثخنت فيها الجراح، وغادرت بها إلى غير رجعة، قال زهير بن أبي سلمى "رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تُمِته.. ومن تخطئ يُعمر فيهرمِ" ورغم اختلافنا مع ما يراه الشاعر الجاهلي من عشوائية المنايا إلا أن القلوب ستظل تنزف لفراق الأحبة، ولكنها مع ذلك ستظل مؤمنة بقضاء الله وقدره.
ربما لن أبالغ إذا أسميت العام الماضي عام رحيل الحكماء، ففي غضون أشهر قليلة وبشكل متتابع غادرنا حكماء القرية في رحلة صمتٍ مهيبة إلى دار الخلود، وكأنهم عقدوا العزم على أن تكون تلك السنة هي محطتهم الأخيرة، فلم يخبروا أحدًا ولم يبوحوا بسر تلك الرحلة الغامضة -كما هي عادتهم الحكيمة في كتم الأسرار- لكن أعينهم كانت تبوح بكل شيء، كان في أعماقها بريق غامض، تتفحص الوجوه بهدوء وكأنها تبحث عن غائب لن يعود، أو قريب مفقود، لقد كانت تستشعر الفقد وهي لا تزال تنبض بالحياة.
لقد غاب عن قريتنا بعض أُنسها فهذه منازلها صامتة وطرقاتها تفتقد وقع عِصِيّ العابرين بها ممن كانوا يتوكؤون عليها جيئة وذهابًا إلى المسجد.
أما مسجد القرية فقد جثا محرابه على ركبتيه يبكي أرواحًا كانت لا تفارق الصف الأول، فيما كانت الكراسي تنتحب حسرة عندما تم عزلها في آخر المسجد لعدم الحاجة لها بعد فقدان أصحابها.
كان عام من الحزن والألم ، ولكنه أيضًا كان عام من العظة والعبرة، فمنا سلام على الراحلين.