الصورة الذهنية ماهي إلا خبرات، أحداث، مشاهد، معلومات ومعارف مقروءة، أو مسموعة لمواقف حية محسوسة، أو غير محسوسة، معونية طارئة، متكررة، خزنت في الذاكرة، وتداولها الناس كما هي فأمست مسلمة من المسلمات، مؤهلة أن تكون مثلًا أو حكمة تتداول وتشتهر، ويذاع صيتها، وتتناقلها الراجلة والركبان، في كل حين وزمان، في الحل والترحال.
إن مثل هذه الحكايات يتفكه بها الناس في اجتماعاتهم الصغيرة والكبيرة، مما جعل تكرارها دروسًا يتعلمها الناشئة؛ لتنتقل من جيل إلى جيل دون تغيير أو تحريف، أو حتى مجرد تفكير في مدى صحتها من عدمه.. إنها مُسَلَّمات بالنسبة لهم.
هناك جملة تطرق الآذان بين الفينة والفينة، سمعها وتحدث بها، وقرأها، الصغير قبل الكبير، والأميُّ قبل المتعلم، الثرثار، وقليل الكلام الخجول، الفصيح ذو البلاغة، ومن لديه تأتأة أو مشكلة في الكلام، كلٌ يروي بطريقته الخاصة بصوت جهوري مسموع، أو حتى بلغة الإشارة.. الكل متحمس، فنطقها ناموس وتحقيقها هدف ومطلب.
إنها جملة "أنت كالأسد"، وإن أردت غاية الفصاحة والبيان قلت: "أنت أسد". هذه الجملة تقال لأي شخص أو أشخاص قام أو قاموا بعمل بطولي شجاع بمعيار القوم أو القبيلة.، سواءً كان ذلك قولًا أو فعلًا، ماديًا، أو معنويًا. كناية عن الشجاعة، ورمزًا للبطولة؛ لأن هناك صورة ذهنية راسخة في أذهاننا أن الأسد شجاع، إنه ملك الغابة، الآمر، الناهي، الذي لا يرفض له طلب، ولا يُعْصَى في أمر، متربع على عرش السيادة.
لكن من خلال التقصي الدقيقة لبلوغ الحقيقة، وجِد أن هذه المسلمة بدأت تهتز صورتها في الأذهان، وبدأت الحكاية تأخذ منحى آخر، عندما بدأ المهتمون بدراسة السلوك الحيواني عن كثب في مملكته، وفي عقر داره، بواسطة كاميرات فائقة الدقة تسجل كل شاردة وواردة عن سلوك الحيوانات دون تدخل بشري، في حيادية متناهية، كُشِفَ الستارُ وأُسْدِلَ، لبدايةِ فصلٍ جديدٍ من المسرحية، سلطت الأضواء لينحني الظلام ويدير ظهره فارًا دون رجعه، إنه نور الحقيقة الذي لا يحجبه غربال، قائلًا بصوت مدوٍ سمعه القاصي قبل الداني: "إن الأسد حيوان عادي مثله مثل أي حيوان آخر، وإن ما يُسمَعُ ويُرَى ويُشَاهَدُ ليس على إطلاقه، فكل بطولات الأسد المنقوشة في الذاكرة ما هي إلا خداع، مصدرها الحقيقي البحث عن ما يسد به رمق جوعه، ويُأمِّن قوته وقوت صغاره، لأيام قادمة، وهذا أمر معتاد وسلوك يصدر من أي حيوان شعر أو حس بالجوع، بصرف النظر عن فصليته ونوعه.
فهل هذا الأمر يعد شجاعة؟! بل قيل إن الأنثى هي من يقوم بهذه المهمة "أقصد صيد الفريسة".
قال محمد شعلان في مقال له بعنوان "اتقلبت الصورة": "وثق مصور داخل حديقة كروغر الوطنية في جنوب إفريقيا، قيام قرد بابون باختطاف شبل من عرين أحد الأسود، خلال مهمة البحث عن الطعام ليتسلق به إلى قمم الأشجار، وأظهر الفيديو القرد، وهو يحمل الأسد الصغير، وكأنه أمه يتحرك به وسط الأشجار، بينما الأسد الشجاع لم يقاوم القرد بل أهداه الشبل في حالة استسلام تامة. أين شجاعتك يا ملك الغابة ؟!
وهناك موقف آخر لصاحبنا الشجاع، حيث وثقت الكاميرات واقعة أخرى مختلفة، من غابات كينيا بين أسد وقطيع من الجاموس كان على غير المتوقع، حيث رصدت الكاميرات الأسد خائفًا يختبئ أعلى شجرة؛ فى محاولة للهروب من قطيع من الجاموس، وكأنه يقول: الكثرة تغلب الشجاعة، متانسيًا موقفه الأول".
أبعد هذا نقول للشجاع: أنت أسد؟!
من وجهة نظري المتواضعة لا وألف لا؛ لقد اهتزت الصورة.