هناك من يغمرُ نفسه في بِرْكَةَ من وحل الصفات الذميمة؛ فتفوح رائحة النَّتن منه عند كل موقف، جبانٌ لا يأخذُ إلا غيلة، كاذبٌ له عند كل أزمة حيلة، يجامل باسم التقرُّب، ويتصيَّدُ الأخطاء ليصعد على أكتاف أصحابها، يصنع من مُلِمَّات الآخرين ومصائبهم جناحي فرحٍ يحلِّق بهما، الشماتة طبعه، والقذف ديدنه، سيوف غدره مشحوذة، وسهام عينيه مسنونة، تتبختر كلماته حين المقارنة بمن هو دونه، وتمتاز غيظًا، وتستقيء سمًّا زعافًا وهي تتحدث عن نجاحات الآخرين، وإنجازاتهم، وتفوقهم، لو أسعفته الأقدار لاستحوذ على كل مقدار، ولو طاوعه الزمان لغيَّر كل ما كان، تنشب أنيابه في كل حي، وتنبش مخالبه قبر كل ميت. مثل هذا أنفاسه تلوث الهواء؛ فلا بد أن يُكمَّم، ولسانه يعكِّر ينابيع الصفاء؛ فلا بد أن يُلْجَم قبل أن يتكلَّم، يجب أن لا يخالطه الشرفاء، ولا يجد له بين الناس أصفياء أو أصدقاء، يجب أن يفرَّ منه المرء كفرار الفريسة من الأسد، ويبتعد عنه كابتعاد الصحيح عن مجذوم الجسد؛ لأن في مجالسته كسب وِزرٍ، وذهاب أجرٍ، وضيق صدر، وفي القرب منه ندمٌ وحسرةٌ وانحطاط قَدْر، وقد بيَّن المصطفى ﷺ ما يمكن أن يلحق بالمرء من مجالسة مثل هذا، فقال ﷺ في تشبيهه لجليس السوء بنافخ الكير: ( ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً).
إننا وبلا شك نريد حياةً تنشر فيها شمس النقاء والصفاء والطهر أشعتها على الأنام، ونريد أن نمشي في دروب الحياة بسلام، نشيِّد ما شئنا من بروج الأحلام، ونعتلي ما قُدِّر لنا من قمم النجاح بلا زحام، ولن يتحقق ذلك إلا بانقراض ذلك الكائن غير البشري، ولن ينقرض إلا إذا أصبح مهمَّشًا، لا يدور بخَلَدٍ، ولا يلتفت إليه أحد، لا قيمة له ولا اعتبار، تطارده شروره، وأوهامه، وخيالاته، وهو مع الأمنيات في رحلة استمطار، ناسيًا أن الوحل يزيد بالأمطار، حينها فقط سيسقط وحيدًا في القاع؛ لأن كل مؤمنٍ كيِّسٍ فطِنٍ تبيَّن ما وراء القناع، ولم تخفَ عليه صفات المكر والخبث والخداع، وحينها فقط يمكن لنا أن ننعم بالهدوء والسكينة، ونستمتع بعلاقاتٍ قويةٍ متينة.