ما بين أسفارٍ متتابعة، وتنقّلاتٍ لا تهدأ بين مدن بلادي ومحافظاتها، يزداد إيماني بأن أعظم ما وهبنا الله في هذا الوطن المبارك هو ذلك التلاحم الفريد بين الشعب وقيادته؛ فقد رأيتُ المواطن يذود عن أمن وطنه، ويعتزّ بقيادته، ويقف صفًا واحدًا خلف ولاة أمره، في مشهدٍ مهيبٍ يفيض بالولاء، ويعكس وعيًا راسخًا بأن الطاعة لولاة الأمر هي من طاعة الله، وهذا يعكس إدراكًا عميقًا بأن الطاعة لولي الأمر ليست مجرد واجب ديني، بل هي صمام أمان لحياة مستقرة وآمنة، وركيزة أساسية في بناء الأوطان وصيانة المجتمعات.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59]
هذا التلاحم الوطني لم يكن وليد اللحظة، بل هو ثمرة عقيدة راسخة وتجربة تاريخية طويلة، تؤكد أن الخروج على ولي الأمر لا يجلب إلا الفوضى والدمار، وأن الطاعة له ليست إذعانًا، بل وعيًا وحرصًا على وحدة الصف وسلامة المجتمع.
الفتنة الكبرى ومقتل عثمان رضي الله عنه (35 هـ / 656 م)
بدأت الفتن الكبرى في التاريخ الإسلامي بمقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، على يد فئة باغية ادّعت الإصلاح، فكانت النتيجة فتنة عظيمة انتهت بمقتله، وبدأت بعدها سلسلة من الحروب بين المسلمين، مثل:
معركة الجمل (36 هـ / 656 م) بين جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجيش عائشة رضي الله عنها، وطلحة والزبير رضي الله عنهم.
معركة صفين (37 هـ / 657 م) بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، والتي انتهت بالتحكيم، ثم ظهور الخوارج الذين كفّروا الطرفين وخرجوا على الإمام الشرعي.
وقد وصف النبي ﷺ الخوارج بقوله: "يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" [رواه البخاري ومسلم]
عصر بني أمية (41 هـ – 132 هـ / 661 – 750 م)
رغم ما تحقق من توسعات عظيمة في الدولة الأموية، إلا أن الفتن لم تهدأ:
عبد الله بن الزبير أعلن نفسه خليفة في مكة بعد وفاة يزيد بن معاوية، واستمرت المواجهات حتى قُتل على يد الحجاج بن يوسف الثقفي عام 73 هـ / 692 م.
الدولة العباسية (132 هـ – 656 هـ / 750 – 1258 م)
شهدت الدولة العباسية اضطرابات كثيرة، منها: ثورة الزنج (255 هـ – 270 هـ / 869 – 884 م)، قادها علي بن محمد في جنوب العراق، واستمرت أكثر من 15 عامًا، واعتبرها العديد من المؤرخين المسلمين مثل الطبري والمسعودي من أكثر الانتفاضات شراسة ووحشية، حيث ارتكب الزنج مجازر مروعة، وسيطروا على البصرة، وأقاموا دولة داخل الدولة، حتى تم القضاء عليهم في عهد الخليفة المعتمد.
ثورة القرامطة (القرن الثالث الهجري)
هاجموا الحجاج في مكة عام 317 هـ / 929 م، وقتلوا الآلاف، وسرقوا الحجر الأسود ونقلوه إلى الأحساء، وظل بعيدًا عن الكعبة قرابة 22 عامًا، في واحدة من أبشع الجرائم التي شهدها الحرم الشريف.
سقوط بغداد (656 هـ / 1258 م)
نتيجة ضعف الدولة العباسية وكثرة الفتن الداخلية، سقطت بغداد على يد هولاكو قائد المغول، وقُتل الخليفة المستعصم بالله، وانتهت بذلك الخلافة العباسية رسميًا في بغداد.
العصور المتأخرة: الأندلس والدولة العثمانية
سقوط الأندلس (897 هـ / 1492 م)
بسبب التنازع بين ملوك الطوائف، واستعانة بعضهم بالنصارى ضد إخوانهم المسلمين، سقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين، وانتهى الحكم الإسلامي في الأندلس بعد أكثر من 8 قرون.
الدولة العثمانية (1299 – 1924 م)
الواقع المعاصر: عبرة لمن اعتبر فيما يعرف بالربيع العربي:
فتنة العصر الحديث
في العصر الحديث، شهدت الأمة الإسلامية ما يُعرف بـ"الربيع العربي"، وهي سلسلة من الاحتجاجات والثورات التي بدأت في تونس يوم 17 ديسمبر 2010، عقب حادثة إحراق الشاب محمد البوعزيزي لنفسه، احتجاجًا على الظلم والبطالة.
وسرعان ما امتدت هذه الموجة إلى دول أخرى:
• مصر: بدأت الثورة في 25 يناير 2011، وانتهت بتنحي الرئيس حسني مبارك، ثم دخلت البلاد في دوامة من الانقلابات والصراعات السياسية.
• ليبيا: اندلعت الثورة في 17 فبراير 2011، وأسفرت عن مقتل العقيد معمر القذافي، لكن البلاد غرقت في حرب أهلية وانقسام سياسي.
• اليمن: بدأت الاحتجاجات في فبراير 2011، وأدت إلى تنحي الرئيس علي عبد الله صالح، ثم دخلت البلاد في حرب طاحنة بين أطراف متعددة.
• سوريا: انطلقت المظاهرات في 15 مارس 2011، وتحولت إلى حرب أهلية مدمرة استمرت لأكثر من عقد، وأدت إلى انهيار الدولة المركزية.
• السودان: شهدت احتجاجات متفاوتة، انتهت في السودان بسقوط عمر البشير عام 2019،
ورغم أن هذه الثورات انطلقت بمطالب الحرية والعدالة، إلا أن الواقع أثبت أن الخروج على الأنظمة الشرعية لم يكن طريقًا للإصلاح، بل كان سببًا في انهيار الأمن، وتفكك المجتمعات، وضياع مقدرات الشعوب، وتدخلات خارجية زادت من تعقيد الأوضاع، مما جعل المواطن يدفع الثمن من أمنه وقوته واستقراره.
الوطن في وجدان الشعراء
وقد عبّر الشاعر مشعل بن محماس الحارثي عن هذا المعنى الوطني في قصيدته الشهيرة القديمة، فقال:
هـذا وطنـا ماسكـنـاه تهجـيـر
الجيـش واحـد ما جمعنا الحثالـي
لو ينتخـي عرعـر تلبيـه خرخيـر
كل الجنوب يصير جنـب الشمالـي
لا يا وطن لا تحسـب انـا مدابيـر
لو الدهر في بعـض الاحيـان مالـي...
في الختام
"الوطن نعمة عظيمة، والأمن والاستقرار هما تاج هذه النعمة. ومن الوفاء أن نكون مواطنين صالحين، نحرص على وحدة الصف، ونقف خلف قيادتنا، نعمل بصدق، ونبني بعزيمة، ونحفظ الوطن بالولاء والطاعة. وإن من فضل الله علينا أن ولي أمرنا هو خادم الحرمين الشريفين، فنسألك يا رب أن تحفظه، وتحفظ ولي عهده، وتوفقهم لما فيه خير البلاد والعباد، وأن تديم على وطننا نعمة الأمن والأمان، والاستقرار والاطمئنان."
-------------------
*مدير عام فرع الرئاسة العامة
للبحوث العلمية والإفتاء بمنطقة المدينة المنورة
