خدمة المجتمع عمل تطوعي، يمثل قطاع أساس في المجتمع يسد احتياجات اجتماعية واقتصادية قد يعجز عنها القطاعان الحكومي والخاص. فإذا كانت الحكومة معنية بتقديم الخدمات والسلع العامة عبر سلطة الإجبار لتحقيق المصلحة العامة، والقطاع الخاص معنيًا بتقديم سلع وخدمات من خلال آلية السوق لتحقيق المصالح الخاصة بإنتاج السلع والخدمات بناءً على طلب المستهلكين، فإن العمل التطوعي يحقق ما لا تستطيعه الأجهزة الحكومية التي هي في جوهرها معنية بتقديم الخدمات بالتساوي بين المواطنين، وعلى أساس قانون عام وإجراءات لا تأخذ بالحسبان الحالات الاستثنائية، في المقابل فإن القطاع الخاص يلبي احتياجات المواطنين بناءً على القدرة الشرائية ومستوى الدخل، ولا يُعنى بأولئك الذين لا يستطيعون الشراء فهم يقعون خارج دائرة السوق، ولا يدخلون في عملية التبادل المنفعي بين البائعين والمشترين. وهكذا يكون العمل التطوعي وخدمة المجتمع أمرًا في غاية الأهمية لتقديم خدمات تجمع بين صفة الخصوصية في تخصيصها لفئة معينة من المجتمع وفي عموميتها من حيث إن دافعها المصلحة العامة.
وعلى أن المجتمع السعودي فيه من الخيرين الذين يجودون بأموالهم ووقتهم وجهدهم في العمل التطوعي وخدمة المجتمع، إلا أنه يظل في دائرة ضيقة ويحتل النشاط الدعوي مساحة كبيرة منه. لا شك أن ذلك أمر محمود فالنشاط الدعوي والإرشادي يسهم في تحصين المجتمع ونشر الوعي والعلم الشرعي، لكن يجب ألا يقتصر مفهوم خدمة المجتمع عند هذا الحد، فالمجتمع بحاجة إلى كثير من التكاتف والتعاون والتنسيق وبذل الخير والعطاء في مجالات عدة وكثيرة، بعضها يحتاج إلى دعم مالي كبير، والبعض الآخر يحتاج إلى تقديم خدمات بسيطة تتطلب التطوع بالوقت والجهد وتتضح أهمية خدمة المجتمع والعمل التطوعي في حالات الكوارث والأزمات عندما لا تستطيع الأجهزة الرسمية احتواءها والسيطرة عليها.
في كثير من الدول تقوم الأجهزة الرسمية باستدعاء متطوعين في مجال الدفاع المدني على سبيل المثال، وتدريبهم على مساعدة الآخرين، وإرشادهم إلى كيفية التصرف أثناء الأزمات. مسؤولية إنقاذ الناس لم تعد فقط مسؤولية الأجهزة الرسمية، إذ لا تستطيع هذه الأجهزة مهما بلغت من الدقة والكفاءة والقدرة في أن تكون حاضرة في الوقت والمكان المناسبين، لذا كان لابد أن يكون هناك متطوعون مدربون على إطفاء الحرائق والتنفس الصناعي والإسعافات الأولية وتنظيم الجمهور إلى حين حضور الجهات المختصة.
العمل التطوعي عمل إنساني واجتماعي يتطلب ثقافة العطاء والتضحية والاهتمام بالآخرين، وهذا له جذوره في الثقافة الإسلامية والتقاليد العربية، إلا أنه ومع الأسف تلاشى واندثر بفعل المدنية، وتغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة، وضعف الرابط الاجتماعي، وانحسار مفاهيم المحلية ومجتمع الحي والمجاورات السكنية، وأصبح الناس لا يرغبون في الاتصال ببعضهم البعض وكأن بذل المساعدة أو السؤال عن الآخرين تدخل فيما لا يعنيهم وحشر لأنوفهم في خصوصيات الآخرين.
إن المجتمع يحتاج إلى التماسك والتواد والتعاون وسد الناس حاجات بعضهم البعض، وليس النظر إلى أن كل شيء يقع على عاتق الحكومة، وأن ما على الإنسان إلا الاسترخاء والوقوف موقف المتفرج يتحول فيها إلى طفيل يأخذ ولا يعطي، يصرف وقته في إثبات أن لا علاقة له بما يحدث حوله، وأن لا دخل له بالمشكلات الاجتماعية وأنها تقع خارج نطاقة ولا صلة له بها. فينزع نحو إلقاء اللائمة على الأجهزة الرسمية في حال وقوع خطأ ما أو تقديم الشكر والعرفان في حال حصوله على الخدمة، وهكذا يقف موقفًا سلبيًا ينسحب فيه عن الاهتمام بمجتمعه والإسهام في التخفيف من معاناة الآخرين وبذل النصح والتوجيه لهم، هناك الكثير الذي يُستطاع فعله، فإن كان الشخص صاحب مهنة كالطبيب أو المهندس فعليه أن يصحح مفاهيم الناس ويرشدهم لأفضل المعايير وأحسن الأساليب، وتقديم الخدمة التي تحفظ لهم صحتهم وعافيتهم وسلامتهم خارج مهامه الرسمية. وتقع على عاتق طلاب المدارس والجامعات أدوار اجتماعية في مجالات كثيرة في التوعية والتثقيف وتنظيم المناسبات والرعاية الاجتماعية.
لقد مضى حين من الدهر تحوَّل فيه المجتمع إلى علاقة ميكانيكية اقتصادية، بعدما كانت العلاقة حميمية اجتماعية يأمر الناس فيها بالمعروف ويتناهون عن المنكر ويتعاونون على البر والتقوى. لقد ضاع هذا المعنى الجميل العام الذي هو أساس خيرية الأمة. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إطار فلسفي عام يضعه الإسلام ليكفل الحيوية والتناصح في المجتمع، ويحث على التواصل وإبداء وجهات النظر، وتنبيه الناس بعضهم للعيوب والأخطاء في كل أمور الحياة وليس فقط في العبادات، مع أن جميع الأعمال تدخل في تعبد الله إذا ما خلصت النية.
ما نحتاج إليه هو العودة إلى تفعيل القيم الإسلامية بمفهومها الشامل لتحرك المجتمع، وتجعله أكثر وعيًا وإدراكًا للمقاصد الحقيقية للشريعة، حيث تتوافق النظرية.


