على بعد حوالي 60 كيلومترًا جنوب شرق عسفان، تقع قرى مركز هدى الشام ومنها قرية القرين القديمة اللافتة للأنظار، والتي يستثير تدقيق النظر في أطلالها في نفوس زائريها مكامن الشوق لتلك الايام الخوالي، عندما كانت مبانيها زاخرة بحياة الآباء والأجداد، ويزداد الشوق لعبق تاريخها عند كل من عاش بمثلها أو فيها أو سار بين طرقاتها العتيقة، وتلمس منازلها القديمة التي ما زالت متماسكة رغم بنائها من الطين. وتجبر الزائر لها على فتح حقيبة ذكرياته وتذكر ماضيه القديم.
من المعلوم أن عجلة الحياة في القرى القديمة ومنها هذه القرية تبدأ منذ ساعات الفجر الأولى، حين يؤذن المؤذن لصلاة الفجر، فيتوجه المصلون لمسجد القرية، فيما يصحو أفراد العائلة وفي مقدمتهم الأم في هذه الأثناء؛ لتوقظ أطفالها وتوقد النار وتحلب الحليب وتعد القهوة، وأفراد العائلة ملتفين حولها وأمامهم طبق التمر، وفي الوقت نفسه تجلس الأم لإعداد خبز الملة المدفون بين ثنايا النار.
يلي ذلك سماع صدى أصوات صغار الأغنام ممتزجة بأصوات كبارها، في لحظات مسراح الأغنام -أي ذهابها إلى مناطق الرعي-، والرعاة الذين لم يكونوا من الوافدين كما يعتقد البعض، لكن نساء القرى هن من يقمن بهذه المهمة، فيتحركن في مجموعات تتحول فيها أغنام الجيران إلى قطيع واحد يرتع في السفوح الجبلية والوهاد حول القرية، ولا يعدن إلا عند المساء، بعد قضاء نهار كامل تتخلله فترة المقيل التي يستغلها الرعاة في إعداد الغداء والشاي أو الخبز وإضافة بعض الحليب الطازج وإلى جواره براد شاي صغير له نكهة خاصة وطعم مميز، وتظل أواني الطبخ معلقه في إحدى الأشجار المعروفة بالمقيل، وهو المكان الذي يرتاح فيه الرعاة وأغنامهم فترة الظهيرة.
وعلى صعيد آخر، ينتشر سكان القرية طلبًا للرزق في وقت مبكر من الصباح، فترى كلًا منهم سائرًا في اتجاه، منهم الراكب على جمله أو حماره، والماشي على رجليه حيث العمل في البلدان “الحقول الزراعية-، وبعضهم لا يعود إلا عند الظهيرة للقيلولة والغداء، ثم يستأنفون رحلة العمل، وأكثرهم ليس لديه عمالة تسانده، ولكن أبناؤه هم من يقوم بهذا الدور؛ كلًا منهم والعمل المناسب لسنه، فيما يظل الصغار يلعبون في مراجيح علقت لهم في غصون الأشجار، وغالبية ألعابهم يصنعونها بأيديهم من خامات بيئتهم، وبعد العصر ترى النساء محتشمات يحملن قرب الماء على جنوبهن، وأخريات على رؤوسهن حزم الحطب يمشين في استحياء، والصبيان يحملون بعض الخضروات إدام للعشاء مثل البامية والملوخية والباذنجان من المزارع القريبة.
وعند الغروب تتعالى أصوات الاغنام وصغارها مرة أخرى بعد العودة من المراعي. وعندما تقبل على القرية من مكان مرتفع تطل عليك شعلة الميافى تصطلي -تنور الخبز- عند كل منزل من منازل القرية، فيتكرر اجتماع الأسرة حول موقد النار حيث الإضاءة والتدفئة وتناول وجبة العشاء، ولا يخلو مجلس الأسرة من عبارات المزاح مع الصغار.
وبعد حلول الظلام تشعل لمبات وأسرجة لإضاءة المنازل، ومن عاداتهم تناول وجبة العشاء قبل العشاء، ثم يخلدون للنوم مبكرًا، وفي أثناء سكون الليل تسمع أصواتًا متقطعة لنباح الكلاب التي تقوم بحراسة الأغنام وحمايتها من مهاجمة السباع، كما أن نباحها ينبه أهل القرية بقدوم الضيوف أو الغرباء أو السباع والناس قديمًا بطبقات النباح يستدلون على هوية القادم نحو قريتهم.
وفي تلك الحقبة من الزمن لم يكن لدى أهالي القري أماكن للتسلية والترفيه سوى مجالسهم العامرة التي يقيمونها في منازلهم، ويعطرونها ببعض القصص الهادفة والقصائد المشوقة والقضايا الافتراضية، فيما يتجه البعض منهم أحيانًا، خصوصًا في الليالي المقمرة نحو بطاح الوادي، حيث التربة الرملية النقية والهواء الطلق، فيلتقون مع بعض معارفهم وتدور المساجلات الشعرية وتمارس الفنون الشعبية مثل الجمالي والحدايا وشيلة العاج والكسرات، ثم يعودون إلى منازلهم ليناموا ليلتهم، تلك بعض ملامح حياة أهل القرى القديمة وقرية القرين بهدى الشام واحدة منها.
وعند بناء المساكن، وعلى ندرة وجود عمالة وافدة أو مقاولين في الماضي البعيد، لكن سواعد أهل القرية وتآزرهم وتكاتفهم هو سبيلهم الوحيد لبناء مساكنهم، فيتعاون الكل في إعداد وجمع مواد البناء من طين ولبن وزبل وأخشاب وجذوع نخل وجريد، فيما تتعهد نساء الحي بجلب المياه في القرب، فيقوم الرجال بعجن الطين ويثبتون الخشب ويرصون اللبن، وتستمر عملية البناء عبر مراحلها المتعددة، كما يقومون بصنع الأبواب وأقفالها من الخشب، وتتكون المساكن من غرفة ومطبخ أو غرفتين وفناء صغير، ومساحة الغرف في المتوسط تبلغ 12 مترًا وارتفاع حيطانها حوالي 3 أمتار، فيما لا يتجاوز بابها 1.80، ولها نوافذ وفتحات صغيرة تأخذ أشكالًا مختلفة تعطي جمالًا وهواء.
وقرية القرين ترتكز منازلها على كتلة جبل شامخ وسط مجرى وادي هدى الشام، ومما تمتاز به تلك المنازل الدفء شتاءً، والبرودة صيفًا، يساعدها في ذلك جدارها الذي يصل سمكة إلى 40 سم.
و من الداخل توجد أرفف داخل الجدران. وسقف تلك المباني يتكون من جذوع النخل والجريد، ويتم شطر الجذوع لاستخدامها في تصريف مياه الأمطار من سطوح المنازل، وبين المنازل توجد ممرات بها درجات من الصخور؛ لتسهيل تنقل الأهالي بين مساكن الحي. ويقع على عاتق النساء في ذلك الوقت مسؤولية تأثيت وتجميل المسكن من الداخل، فالنساء يسهرن الليالي ويقتطعن جزءًا من وقتهن في صناعة الحصر من سعف النخل والدوم “الصيران”؛ لصناعة العوازل والفرش والخصف من أجل تفريش الغرف، وتزيين الجدران وعمل ستائر للنوافذ، فلم تكن هناك محال موبيليا أو موكيت ولا رخام أو بورسلان.
أعمال عديدة يقوم بها سكان القرية متعاونين متكاتفين متحابين. حياتهم جميلة بكل تفاصيلها وجمالها في بساطتها وخلوها من البهرجة والتكلف. وعملت بساتين النخيل والحقول الزراعية التي تحف القرين على تلطيف أجواءها. وفي أثناء الليل ينساب نحوها نسيم الجبل العليل، فما أطيب المقام فيها والعيش بها، وعند تدفق السيول المنتظمة تحيط المياه بالقرية من جميع جهاتها، فتبدو كما لو كانت جزيرة وسط بحر أو نهر. ويقف السكان في المشاريف مستمتعين بهذا المنظر الأخاذ وفرحين بقدوم وتدفق ماء السماء.
أما الغذاء، فالناس في القرى في الماضي كانوا يعتمدون في غذائهم بشكل أساسي على ما تجود به حيواناتهم من سمن وحليب واقط “مضير” ولبن، وحقولهم الزراعية من تمور وحبوب كالذرة والدخن والقمح وجمع العسل. وكان الشراء يتم بالعملة أو بطريقة المقايضة مع أصحاب المحال التجارية والتجار الذين يأتون بجمالهم ودوابهم محملة بسلع وبضائع كالبن والأقمشة والأرز والملح والأسماك المجففة، ويعودون بالتمور والمنتوجات الحيوانية.
فالحياة في الماضي برغم ظروفها القاسية كانت أفضل من الحياة الآن؛ نظرًا لبساطتها وتوفر فرص التقارب والتراحم بين الأهالي، فلم تكن هناك أعمال وظيفية تشغلهم ولا وسائل نقل تبعدهم، وكانت المرأة في الماضي لها دور كبير في مساعدة الرجل وتخفيف أعباء الحياة عنه.
و الحياة بسيطة وسهلة وقائمة على المحبة والبركة بالرغم من الظروف القاسية التي كانت تواجه الأهالي، إلا أنها كانت أيامظا جميلة لقوة العلاقات والروابط الاجتماعية القائمة على التعاون والمحبة بين الجميع الذين كانوا يدركون أهمية العمل والسعي لطلب الرزق والتكاتف.
تلك بعض مظاهر الحياة في القرى ومنها قرية القرين بمركز هدى الشام التي زارها عدد من محبي التراث والمهتمين بالآثار في محافظة الجموم والمراكز التابعة لها.
واليوم مركز هدى الشام والقرى التابعة له رغم ما تشهده من تطور إلا أنها تحتاج العديد من الخدمات البلدية الأساسية.